
قصة/ إيناس سيد جعيتم
“آن الوقت” تكاد درجات سلم المنزل العتيقة أن تسلم قدميَّ للهاوية، تهترئ يوما بعد يوم بفعل نعل حذائي القديم، أقتلع رجليَّ وأنا أصعد لشقتي التي هُـيئ لي أنها اعتلت جميع أدوار العقار، يخطف بصري ضوء أبيض يشع بقوة محاوطا باب الشقة المقابلة لشقتي، ويتسلل عبر ثقب بصدر الباب فيبدو لي كوحش بعين واحدة، اتحرك ببطئ مبتعدا عنه فتستبيح ضحكات أطفال صادرة من خلفه صمت المكان، وتُنبت ابتسامة هزيلة بين تشققات شفتيَّ، أضع مفتاحي بثقب الباب فيلتقمه ويشق عن صدره ويبتلعني لأدلف لشقتي التي لفها ضبابٌ مُقبض، منذ وفاة زوجتي ومصابيحها تنطفئ الواحد تلو الآخر، تغول الصمت عليَّ فبدد كل الأصوات، حتى خرير الماء في الصنبور خفت تدريجيا حتى صمت هو الأخر، لم يعد لي سلوى سوى التنصت لجيراني الجدد، أم أنهم سكنوها قبل أن أفعل أنا؟ لست أدري، أقتات على أصوات أفواههم وهي تلوك اللقيمات، وأستدفئ بحسيس نار موقدهم والقدور تغلي من فوقه، تدب الحياة بأوصالي مع شجاراتهم المعتادة حول شئون البيت، ولا يحتوني سرير بغير همهمات العشق وآهاته التي تأتيني من خلف جدار لا يقي من برد ولا خوف...
لا يقبضني سوى فزع صغيرهم وبكائه كلما طرقت بقبضة يدي على الجدار.
أفتح عينيَّ ولا أدري أفي صباح أنا أم مساء! ما هذا؟ لماذا يعم الصمت المكان؟ ظلام دامس يعم غرفتي الغارقة في صمت مهيب، قمت أتحسس الجدران التي قست فمنعت عني أصواتهم، داهمني خوف قبض قلبي وقد اجتمع الظلام والصمت علي، درت أبحث عن باب أخرج منه باحثا عن جيراني الذين لم أرهم ولم يروني قبلا، تبدو لي الغرفة بلا نهاية بلا نوافذ بلا أبواب، أصرخ ويصرخ الصغير فيرتعد قلبي، أسمع صوتا هادئا يناديني:

– آن الوقت..
ارتعد جسدي وأنا أتشبث بالجدران، تلفظني وتدفعني نحو ثقب صغير يشع بضوء باهت، تهتز الأرض من تحتي وتتساقط عليَّ قطع من حجارة السقف، أغرس أصابعي بالجدار فينخلع جزء من حجارته بيدي ليظهر شقة الجيران، لأول مرة أرى شقتهم ومن فيها، في غرفة تشابه غرفتي يقف الأب جوار رجل هادئ الملامح، يحاولان سد الفجوة التي فتحتها في الجدار، والأم تحتضن الصغير باكية بينما ينظر هو مباشرة لعيني ويرتجف، أتوسل إليه أن يبقيني فيغلق عينيه البريئتين ويتركني وحدي لجزعي، أُغلق الجدار من جديد ولم تفلح يداي في كسر شيء منه مهما حاولت، في محاولة يائسة تمسكت بإطار معلق على الحائط يكسوه الغبار، صرخت مستنجدا بساكنته فأجابتني بابتسامة مطمئنة، غمر ظهري ضوء أبيض قوي أحاط بي، إلتفتٌُ ناحيته وقد خارت قواي، سالت دموع من عيني وأنا أراه يضمني، تخللني الضوء فاستدفأ به قلبي، سرى الدفء في جسدي وأنا أذوب مستسلما فيه.
“آن الوقت”
