لقد تحول النمو السريع لصناعة الدفاع التركية في السنوات الأخيرة من عامل لتعزيز القدرة الرادعة للبلاد إلى أداة مركزية للاستراتيجية التعديلية التي يتبناها رجب طيب أردوغان.
إن الرئيس التركي، الذي يدرك الأهمية الجيوسياسية لتركيا، يستخدم أنظمة الأسلحة المنتجة داخل البلاد كوسيلة للابتزاز والضغط الدبلوماسي، سواء تجاه الغرب أو تجاه دول المنطقة.
من طائرات “بيرقدار” بدون طيار التي أصبحت “رمزا” للتكنولوجيا العسكرية التركية، إلى الفرقاطات وأنظمة الدفاع الجوي والمركبات المدرعة المحلية، تمكنت أنقرة من بناء رواية عن الاستقلال التكنولوجي، والتي تعمل، مع ذلك، كستار دخاني لأجندتها العدوانية.
وليس من قبيل المصادفة أن يقدم أردوغان نفسه الصناعة العسكرية التركية ليس فقط باعتبارها ركيزة من ركائز الفخر الوطني، بل أيضا كأداة تفاوضية، تضعها أنقرة على الطاولة في كل مرة تطلب فيها تعويضات من أوروبا والولايات المتحدة.
ومن الأمثلة النموذجية على ذلك تورط تركيا في حرب أوكرانيا، حيث تم بيع طائرات تركية بدون طيار إلى كييف، مما عزز مكانة تركيا باعتبارها “حليفًا لا غنى عنه” لحلف شمال الأطلسي. وفي الوقت نفسه، تحافظ أنقرة على علاقات وثيقة مع موسكو، وتحاول لعب لعبة مزدوجة، وتجني فوائد اقتصادية وجيوسياسية.
ويتكرر النمط نفسه في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تدعم صناعته العسكرية التحركات العدوانية في المناطق الاقتصادية الخالصة في بحر إيجة وقبرص، مما يعزز الاستفزازات ويخلق الأمر الواقع.
في واقع الأمر، إن “الرهان الوطني” على استقلالية الدفاع ليس أكثر من مجرد أداة يحاول أردوغان من خلالها ابتزاز حلفائه وفرض تعديلاته.
من الصناعة إلى السياسة: “مبدأ بايكار” التركي
إن الصناعة العسكرية التركية ليست مجرد قطاع من قطاعات الاقتصاد. إنها أداة من أدوات السياسة الخارجية والمساومة الجيوسياسية. وتعمل شركة بايكار، التي تنتمي إلى عائلة صهر رجب طيب أردوغان، كذراع رسمي للاستراتيجية التركية، كما أفاد مركز كارنيغي أوروبا.
حيث توفر الأسلحة والتكنولوجيا والأمر الواقع على جبهات حاسمة، من القوقاز إلى ليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط.
كان الاستحواذ على شركة بياجيو ايروسبيس، وهي شركة ذات تاريخ طويل وارتباط مباشر بصناعة الدفاع الأوروبية، أكثر من مجرد صفقة تجارية. لقد كانت ضربة استراتيجية دقيقة: تمكنت أنقرة من الوصول إلى المعرفة الأوروبية، والأهم من ذلك، وسيلة للضغط على إيطاليا والاتحاد الأوروبي نفسه.
صمت إيطاليا وحرج أوروبا
وعلى الرغم من تحذيرات المسؤولين والمحللين مثل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن الحكومة الإيطالية لم تمنع الصفقة فحسب، بل رحبت بها في صمت، واعتبرتها حلاً للمأزق المالي الذي تواجهه شركة بياجيو. ولم يلحظ أحد حقيقة أن هذه الاتفاقية تقدم بهذه الطريقة أصولاً استراتيجية لبلد يتحدى القانون الدولي بشكل منهجي.
وفي بروكسل، تسببت أنباء الاستحواذ في إحراج شديد، لكنها لم تثير أي رد فعل مؤسسي. وكما اعترف مسؤول أوروبي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: “نحن نتظاهر بأن هذه مجرد معاملة خاصة، في حين أننا جميعا نعلم أن شركة بايكار هي ذراع دولة لأنقرة”.
تركيا والتكنولوجيا الأوروبية: نمط متكرر
إن قضية شركة بياجيو ايروسبيس ليست حادثة معزولة. وقد اكتسبت تركيا بالفعل معرفة بالغة الأهمية من خلال الشراكات والاستحواذات في ألمانيا وبريطانيا.
وبحسب تحقيق أجراه موقع “نورديك مونيتور”، فإن طائرة “بيرقدار” بدون طيار سيئة السمعة تعتمد جزئيا على مكونات ألمانية وكندية تم الحصول عليها من خلال شبكات الشركات.
وكما يشير معهد الحوار الاستراتيجي: “لقد أتقنت تركيا فن “الاختراق التكنولوجي”، من خلال الاستحواذ على التكنولوجيا الأوروبية إما من خلال الشراكات أو من خلال مصائد الاستثمار”.
أردوغان “تاجر” التكنولوجيا والتهديد
والعنصر الأكثر خطورة في هذه المعادلة هو أن تركيا لا تسعى إلى اقتناء التكنولوجيا للاستخدام الداخلي فحسب. وكما يؤكد معهد الحوار الاستراتيجي، فإن روسيا تحولها إلى سلاح للتبادل الجيوسياسي، وتبيع الأنظمة إلى دول ثالثة، ولكنها تستخدم أيضًا الوصول إلى التكنولوجيا نفسها كرافعة للابتزاز تجاه أوروبا.
وقال وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي السابق بيير فيمون بصراحة: “ما دامت أوروبا تنظر إلى تركيا من خلال منظور إدارة الهجرة، فإن أنقرة ستواصل لعب لعبة الاختراق التكنولوجي دون عائق”.
الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا في سقوط حر
ويأتي الاستحواذ على شركة بياجيو ايروسبيس في وقت يتحدث فيه الاتحاد الأوروبي عن الاستقلال الاستراتيجي وتعزيز الدفاع المشترك. ما معنى هذه الكلمات عندما تنتقل قطعة استراتيجية من تكنولوجيا الدفاع الأوروبية إلى سيطرة قوة تنقيحية تهدد بشكل مباشر حدود اليونان وقبرص؟
كما أن الاستحواذ على شركة بياجيو إيروسبيس يكشف عن تناقضات الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وذلك وفقًا لتحليل أجرته مؤسسة “ديفينس أناليسيس”، التي حذرت من أن أوروبا تضعف عندما لا تتحكم في من يحصل على حق الوصول إلى تقنياتها الحيوية.
من يوقظ أوروبا؟
لم يعد السؤال الآن هو ما إذا كانت أوروبا ستدفع ثمن سذاجتها أم لا – فهي تدفعه بالفعل.
والسؤال هو ما إذا كانت الاتحاد الأوروبي سوف تجرؤ على وقف هذا التراجع من خلال فرض قواعد واضحة بشأن من يحق له الوصول إلى تكنولوجيا الدفاع الأوروبية.
وكما قال أحد الدبلوماسيين اليونانيين وهو يراقب عملية استحواذ بياجيو: “إذا لم يكن هذا انتحاراً استراتيجياً، فما هو إذن؟”.