ثقافة و فن

“ذاكرة غائبة” قصة/ ياسمين عبدالرحمن ثابت

"ذاكرة غائبة" في إحدى أمسيات الشتاء الباردة

“ذاكرة غائبة”

في إحدى أمسيات الشتاء الباردة، كنت أسير في شارع هادئ تزينه الأضواء الخافتة، متأملة الطريق الذي بات أكثر وضوحًا لي مع مرور السنين. كنت أعلم أنني تغيرت، ليس لأنني أردت ذلك، بل لأن الحياة أرغمتني.
البساطة التي كانت جزءًا من تكويني أصبحت عبئًا، بعدما ظن البعض أن خلفها تصنّعًا أو مصلحة.

عشت سنوات أبحث عن الخير في الآخرين، أصدق كلماتهم رغم أن صوتًا داخليًا كان يحذرني: “لا تثقي بهم.” كذبت ذلك الصوت مرارًا، معتقدة أن بإمكاني إصلاح الأمور. لكنهم عبثوا بروحي، تركوا جروحًا لا تلتئم، وجعلوني أُجلد ذاتي وأتساءل مرارًا: لماذا؟

"ذاكرة غائبة"  في إحدى أمسيات الشتاء الباردة
“ذاكرة غائبة” قصة/ ياسمين عبدالرحمن ثابت

مرت الأيام، وأنا أتعلم أن أضع حدودًا واضحة بيني وبين من لا يرى قيمتي. كنت أتعافى ببطء، أرمم ذاتي بقطع من الحكمة والنضج. لكنني لم أنسَ الألم الذي خلفوه في داخلي.

وفي إحدى المناسبات، بينما كنت أجلس في ركن هادئ من قاعة تعج بالناس، فجأة، لمحت وجهًا مألوفًا يتقدم نحوي. كانت إحدى أولئك الذين تلاعبوا بثقتي يومًا. ابتسمت كأنها لم ترتكب يومًا خطأ، وقالت بصوت ودود:
“مرحبًا! لم أرك منذ فترة طويلة. كيف حالك؟”

نظرت إليها بهدوء، بينما كانت الذكريات تتصارع داخلي، ثم قلت بصوت ثابت:
“عذرًا، ذاكرتي ضعيفة. هل تقابلنا من قبل؟”

ارتبكت للحظة، ثم حاولت أن تذكرني بنفسها، لكنني كنت قد نسيت، أو ربما اخترت النسيان. كان وجهها يبدو باهتًا تمامًا، كما كانت ذكرياتي عنها.

حين غادرت، شعرت بشيء غريب؛ لم يكن انتصارًا ولا شفقة، بل كان سلامًا. أدركت أنني لم أعد تلك الإنسانة التي تُخدع بسهولة. البساطة التي كانت يومًا مصدر ضعفي أصبحت درعًا، لكنها لم تعد تُمنح إلا لمن يستحقها.

أغمضت عيني للحظة، وكأنني أهمس لنفسي:
“شكرًا لكل شيء، حتى الجروح. فقد صنعت مني شخصًا أقوى مما كنت أظن.”

ثم نهضت، تاركة خلفي كل الوجوه الباهتة.

"ذاكرة غائبة"  في إحدى أمسيات الشتاء الباردة
“ذاكرة غائبة” قصة/ ياسمين عبدالرحمن ثابت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى